كتاب الشركة
ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ، لقوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم [ص : 24] الآية وقوله : فهم شركاء في الثلث [النساء : 12] وقوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : أنا ثالث الشريكين ، ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما رواه أبو داود . وقال زيد : كنت أنا والبراء شريكين ، فاشترينا فضة بنقد ، ونسيئة . . الحديث ، رواه البخاري .
وهي خمسة أنواع كلها جائزة ممن يجوز تصرفه لأن مبناها على الوكالة ، والأمانة .
أحدها : شركة العنان ، وهي : أن يشترك اثنان فأكثر في مال يتجران فيه ، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه وهي جائزة بالإجماع . ذكره ابن المنذر .
وشروطها أربعة : 1- أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين : الذهب ، والفضة لأنها قيم المتلفات ، وأثمان البياعات .
ولو لم يتفق الجنس كذهب وفضة ، أو كان متفاوتاً ، بأن أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين . ولا تصح بالعروض - وعنه : تصح - ويجعل قيمتها وقت العقد رأس المال ، والنقرة قبل ضربها ، والمغشوشة كثيراً ، والفلوس النافقة كالعروض .
2 - أن يكون كل من المالين معلوماً قدراً وصفة ، لأنه لا بد من الرجوع برأس المال ، ولا يمكن مع جهله .
3 - حضور المالين فلا تعقد على ما في الذمة ، واشتراط إحضارهما لتقرير العمل ، وتحقيق الشركة كالمضاربة .
ولا يشترط خلطهما لأنها عقد على التصرف كالوكالة ، ولهذا صحت على جنسين ، ولأن المقصود الربح ، وهو لا يتوقف على الخلط .
ولا الإذن في التصرف لدلالة لفظ الشركة عليه .
4 - أن يشرطا لكل واحد منهما جزءاً معلوماً من الربح سواء شرطا لكل واحد منهما على قدر ماله أو أقل أو أكثر وبه قال أبو حنيفة ، لأن العمل يستحق به الربح ، وقد يتفاضلان فيه لقوة أحدهما وحذقه ، فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب .
فمتى فقد شرط فهي فاسدة ، وحيث فسدت . فالربح على قدر المالين في شركة عنان ووجوه ، لأن الربح استحق بالمالين ، فكان على قدرهما .
لا على ما شرطا لفساد الشركة .
لكن يرجع كل منهما على صاحبه بأجرة نصف عمله لعمله في نصيب شريكه بعقد يبتغى به الفضل في ثاني الحال ، فوجب أن يقابل العمل فيه عوض كالمضاربة ، فإذا كان عمل أحدهما مثلاً يساوي عشرة دراهم ، والآخر خمسة ، تقاصا بدرهمين ونصف ، ورجع ذو العشرة بدرهمين ونصف .
وكل عقد لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده ، إلا بالتعدي والتفريط ، كالشركة والمضاربة والوكالة والوديعة والرهن والهبة والصدقة والهدية ، وكل عقد لازم ، يجب الضمان في صحيحه ، يجب في فاسده ، كبيع وإجارة ونكاح وقرض . ومعنى ذلك : أن العقد الصحيح إذا لم يكن موجباً للضمان ، فالفاسد من جنسه كذلك ، وإن كان موجباً له مع الصحة ، فكذلك مع الفساد .
ولكل من الشريكين أن يبيع ويشتري ويأخذ ويعطي ، ويطالب ويخاصم ، ويفعل كل ما فيه حظ للشركة لأن هذا عادة التجار وقد أذن له في التجارة ، فينفذ تصرف كل منهما بحكم الملك في نصيبه ، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه .
فصل
الثاني : المضاربة ، وهي : أن يدفع ماله إلى إنسان ليتجر فيه ، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه وهي جائزة بالإجماع . حكاه في الكافي ، و الشرح ، وذكره ابن المنذر . ويروى إباحتها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام ، رضي الله عنهم ، في قصص مشتهرة ، ولا مخالف لهم ، فيكون إجماعاً .
1 وشروطها ثلاثة : 1 - أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين كما تقدم في شركة العنان .
2 - أن يكون معيناً فلا تصح إن قال : ضارب بما في أحد هذين الكيسين للجهالة ، كالبيع .
معلوماً فلا تصح بصبرة دراهم أو دنانير ، إذ لابد من الرجوع إلى رأس المال عند الفسخ ، ليعلم الربح ، ولا يمكن ذلك مع الجهل .
ولا يعتبر قبضه بالمجلس فتصح ، وإن كان بيد ربه ، لأن مورد العقد العمل .
ولا القبول فتكفي مباشرته للعمل ، ويكون قبولاً لها كالوكالة . وقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أنه لا يجوز أن يجعل الرجل ديناً له على رجل مضاربة . انتهى . وإن أخرج مالاً ليعمل فيه وآخر ، والربح بينهما صح . نص عليه .
3 - أن يشترط للعامل جزء معلوم من الربح مشاعاً ، كنصفه أو ربعه أو ثمنه أو ثلثه أو سدسه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها والمضاربة في معناها . فإن شرطا لأحدهما فى الشركة والمضاربة دراهم معلومة ، أو ربح أحد الثوبين لم يصح . قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما ، أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة .
فإن فقد شرط فهي فاسدة ، ويكون للعامل أجرة مثله نص عليه . كالإجارة الفاسدة ، لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له ، والتصرف صحيح ، لأنه بإذن رب المال .
وما حصل من خسارة فعلى المالك ، لأن كل عقد لا ضمان في صحيحه ، لا ضمان في فاسده .
أو ربح فللمالك لأنه نماء ماله . وإن شرط عليه ما فيه غرض صحيح فخالف ضمن لأن حكيم بن حزام كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة ، يضرب له به : أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ، ولا تحمله في بحر ، ولا تنزل به بطن مسيل ، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني .
وليس للعامل شراء من يعتق على رب المال لقرابة أو تعليق أو إقرار بحريته إلا بإذنه ، لأن عليه فيه ضرراً ، والمقصود من المضاربة الربح ، وهو منتف هنا .
فإن فعل صح الشراء ، لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كغيره ، و :
عتق على رب المال ، لتعلق حقوق العقد به ، وولاؤه له .
وضمن العامل
ثمنه الذي اشتراه به لتفريط .
ولو لم يعلم لأن الإتلاف الموجب للضمان يستوي فيه العلم والجهل ، وقال أبو بكر : إن لم يعلم لم يضمن ، لأنه معذور ، كما لو اشترى معيباً لم يعلم عيبه .
ولا نفقة للعامل لأنه دخل على العمل بجزء مسمى فلا يستحق غيره كالمساقي .
إلا بشرط نص عليه . كالوكيل ، وقال الشيخ تقي الدين و ابن القيم : أو عادة ، فإذا شرط نفقته فله ذلك ، لقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمنون على شروطهم ويستحب تقديرها لأنه أبعد من الغرر .
فإن شرطت مطلقة جاز لأن لها عرفاً تنصرف إليه .
واختلفا فله نفقة مثله عرفاً من طعام وكسوة لأن إطلاقها يقتضي جميع ما هو من ضروراته المعتادة . قال الإمام أحمد : ينفق على ما كان ينفق غير متعد للنفقة ولا مضر بالمال .
ويملك العامل حصته من الربح بظهوره قبل القسمة كالمالك قال أبوالخطاب : رواية واحدة . كما في المساقاة والمزارعة ، لأن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه ، وهو أن يكون له جزء من الربح ، فإذا وجد وجب أن يملكه بحكم الشرط ، ولأنه يملك المطالبة بقسمته فملكه كالمشترك ، ولو لم يعمل المضارب ، إلا أنه صرف الذهب بورق فارتفع الصرف استحقه . نص عليه .
لا الأخذ منه أي : الربح .
إلا بإذن رب المال . لا نعلم فيه خلافاً . قاله في الشرح ، لأن نصيبه مشاع فلا يقاسم نفسه ، ولأن ملكه له غير مستقر لأنه وقاية لرأس المال .
وحيث فسخت والمال عرض فرضي ربه بأخذه أي : مال المضاربة على صفته التي هو عليها .
قومه ، ودفع للعامل حصته من الربح الذي ظهر بتقويمه ، وملك ما قابل حصة العامل من الربح ، لأنه أسقط عن العامل البيع فلا يجبر على بيع ماله بلا حظ للعامل فيه .
وإن لم يرض رب المال بعد فسخها بأخذ العرض .
فعلى العامل بيعه وقبض ثمنه لأن عليه رد المال ناضاً كما أخذه على صفته .
والعامل أمين لأنه يتصرف في المال بإذن ربه ، ولا يختص بنفعه أشبه الوكيل .
يصدق بيمينه في قدر رأس المال لأنه منكر للزائد ، والأصل عدمه .
وفي الربح وعدمه ، وفي الهلاك والخسران إن لم تكن بينة لأن ذلك مقتضى تأمينه .
حتى ولو أقر بالربح ثم ادعى تلفاً أوخسارة بعد الربح قبل قوله لأنه أمين ، ولا يقبل قوله إن ادعى غلطاً أو كذباً أو نسياناً ، لأنه مقر بحق لآدمي ، فلم يقبل رجوعه كالمقر بدين .
ويقبل قول المالك في قدر ما شرط للعامل بعد ربح مال المضاربة . نص عليه ، لأنه ينكر الزائد . فإن أقاما بينتين ، قدمت بينة العامل .
فصل
الثالث : شركة الوجوه وهي : أن يشترك اثنان لا مال لهما في ربح ما يشتريان من الناس في ذممهما بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال . قال أحمد : في رجلين اشتريا بغير رؤوس أموال فهو جائز . وبه قال الثوري و ابن المنذر ، وسواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه ، أو قال : ما اشتريت من شئ فهو بيننا . نص عليه .
ويكون الملك والربح كما شرطا من تساو وتفاضل ، لحديث المؤمنون عند شروطهم ولأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار وأبصر بالتجارة من الآخر ، فكان على ما شرطا كشركة العنان .
والخسارة على قدر الملك فمن له فيه الثلثان فعليه ثلثا الوضيعة ومن له الثلث عليه ثلثها ، سواء كان الربح بينهما كذلك أو لا ، لأن الوضيعة نقص رأس المال ، وهو مختص بملاكه ، فيوزع بينهم على قدر الحصص . ومبناها على الوكالة والكفالة ، وحكمها فيما يجوز لكل منهما ، أو يمنع منه كشركة العنان .
الرابع : شركة الأبدان . وهي : أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من المباح : كالاحتشاش ، والاحتطاب ، والاصطياد والمعدن ، والتلصص على دار الحرب ، وسلب من يقتلانه بها ، فهذا جائز . نص عليه ، لقول ابن مسعود اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجئ أنا وعمار بشئ ، وجاء سعد بأسيرين رواه أبو داود والأ ثرم ، واحتج به أحمد ، وقال : أشرك بينهم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك في غزوة بدر ، وكانت غنائمها لمن أخذها قبل أن يشرك الله بينهم ، ولهذا نقل أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : من أخذ شيئاً فهو له وإنما جعلها الله لنبيه بعد أن غنموا واختلفوا فيها ، فأنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال [ الأنفال : 1] .
أو يشتركا فيما يتقبلان في ذممهما من العمل فإن عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما على ما شرطا . قال أحمد : هذا بمنزلة حديث عمار وسعد وابن مسعود . والحاصل من مباح تملكاه ، أو أحدهما ، أو من أجرة عمل تقبلاه ، أو أحدهما كما شرطا من تساو أو تفاضل ، لأن الربح مستحق بالعمل ويجوز تفاضلهما فيه .
الخامس : شركة المفاوضة . وهي : أن يفوض كل إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمة ومضاربة وتوكيلاً ومسافرة بالمال وارتهاناً وهي جائزة لأنها لا تخرج عن أضرب الشركة التي تقدمت ، فإن أدخلا فيها كسباً نادراً ، كوجدان لقطة ، أو ركاز ، أو ما يحصل لهما من ميراث ، أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب ، أو أرش جناية ، أو ضمان عارية ، أو لزوم مهر بوطء ، فهي فاسدة ، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله ، ولما فيه من كثرة الغرر ، لأنه قد يلزم فيه ما لا يقدر الشريك عليه ، ولأنه يدخل فيه اكتساب غير معتاد ، وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم .
ويصح دفع دابة أوعبد لمن يعمل به بجزء من أجرته معلوماً . نص عليه ، لأنها عين تنمى بالعمل عليها ، فجاز العقد عليها ببعض نمائها ، كالشجر في المساقاة . ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على نصف الغنيمة : أرجو أن لا يكون به بأس ، وبه قال الأوزاعي .
ومثله خياطة ثوب ونسج غزل وحصاد زرع ورضاع قن واستيفاء مال بجزء مشاع منه قال في الشرح : قال أحمد لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع ، قيل : يعطيه بالثلث أو الربع ودرهم أو درهمين ، قال : أكرهه لأنه لا يعرفه . وإذا لم يكن معه شئ نراه جائزاً ، لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أعطى خيبر على الشطر . انتهى . ولا يعارضه حديث الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم ، نهى عن عسب الفحل ، وعن قفيز الطحان لحمله على قفيز من المطحون ، فلا يدرى الباقي بعده ، فتكون المنفعة مجهولة .
وبيع متاع بجزء من ربحه كمن أعطى فرسه على النصف من الغنيمة ، بخلاف ما لو قال : بع عبدي والثمن بيننا ، أو : آجره والأجرة بيننا ، فإنه لا يصح . والثمن أو الأجرة لربه ، ولآخر أجرة مثله .
ويصح دفع دابة أو نحل أو نحوهما لمن يقوم بهما مدة معلومة بجزء منهما معلوماً . قال البخاري في صحيحه ، وقال معمر : لا بأس أن تكون الماشية على الثلث أو الربع إلى أجل مسمى .
والنماء ملك لهما أي : للدافع والمدفوع إليه على حسب ملكيهما ، لأنه نماؤه .
لا إن كان بجزء من النماء كالدر والنسل والصوف والعسل فلا يصح لحصول نمائه بغير عمل .
وللعامل أجرة مثله لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له . وعنه : يصح . اختاره الشيخ تقي الدين .