كتاب الصيام
صوم رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه لحديث ابن عمر : بني الإسلام على خمس وقد سبق . افترض في السنة الثانية من الهجرة ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تسع رمضانات إجماعاً .
يجب صوم رمضان بروية هلاله على جميع الناس لقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185]
وقوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته متفق عليه وبإكمال شعبان . قال في الشرح : لا نعلم فيه خلافاً .
وعلى من حال دونهم ، ودون مطلعه غيم ، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان ، احتياطاً بنية رمضان لقوله في حديث ابن عمر فإن غم عليكم فاقدروا له متفق عليه . يعني ضيقوا له العدة . من قوله : ومن قدر عليه رزقه [ الطلاق : 7] أي ضيق عليه . وتضيق العدة له : أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً . وكان ابن عمر ، إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر ، أصبح صائماً وهو راوي الحديث ، وعمله به تفسير له . وهو قول عمر وابنه ، وعمرو بن العاص ، وأبي هريرة ، وأنس ومعاوية ، وعائشة وأسماء ، ابنتي أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم . وعنه رواية ثانية لا يجب . قال الشيخ تقي الدين : هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه ، ولا أصل للوجوب في كلامه ، ولا كلام أحد من أصحابه ، فعليها يباح صومه ، اختاره الشيخ تقي الدين ، و ابن القيم في الهدي . وما نقل عن الصحابة إنما يدل على الاستحباب ، لا على الوجوب ، لعدم أمرهم به . وإنما نقل عنهم الفعل . وقول بعضهم : لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان . وعنه رواية ثالثة : الناس تبع الإمام ، لقوله صلى الله عليه وسلم صومكم يوم تصومون ، وأضحاكم يوم تضحون رواه أبو داود .
ويجزئ إن ظهر منه أي من رمضان : بأن تثبت رؤيته بموضع آخر ، لأن صومه قد وقع بنية رمضان لمستند شرعي أشبه الصوم للرؤية . قال الأ ثرم : قلت لأحمد ، فيعتد به ؟ قال : كان ابن عمر يعتد به فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به ويجزئه .
وتصلى التراويح احتياطاً للقيام ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لة ما تقدم من ذنبه ولا يتحقق قيامه كله إلا بذلك .
ولا تثبت بقية الأحكام : كوقوع الطلاق ، والعتق ، وحلول الأجل المعلق بدخوله ، عملاً بالأصل . خولف في الصوم احتياطاً للعبادة .
وتثبت رؤية هلاله بخبر مسلم مكلف عدل ولو عبداً أو أنثى نص عليه وفاقاً للشافعي ، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء ، قاله في الفروع ، لحديث ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : رأيت الهلال . قال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ؟ قال : نعم . قال يا بلال : أذن في الناس فليصوموا غداً رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وعن ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ، أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود . وتثبت بقية الأحكام تبعاً للصيام .
ولا يقبل في بقية الشهور إلا رجلان عدلان لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، فيه : فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا ، وأفطروا رواه أحمد والنسائي ، ولم يقل مسلمان ، وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً ، فلم يروا الهلال ، لم يفطروا ، لقوله عليه السلام : صوموا لرؤيته . . . الحديث .
فصل
وشرط وجوب الصوم أربعة أشياء : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل فلا يجب على كافر ولا صغير ولا مجنون ، لحديث : رفع القلم عن ثلاثة .
والقدرة عليه . فمن عجز عنه لكبر ، أو مرض لايرجى زواله أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكيناً مدبر ، أو نصف صاع من غيره لقول ابن عباس في قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية [ البقرة : 184] ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم رواه البخاري ، والحامل ، والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا ، وأطعمتا رواه أبو داود .
وشروط صحته ستة : الإسلام فلا يصح من كافر .
وانقطاع دم الحيض ، والنفاس لما تقدم في بابه .
الرابع : التمييز ، فيجب على ولي المميز المطيق للصوم أمره به ، وضربه ، عليه ليعتاده قياساً على الصلاة .
الخامس : العقل لأن الصوم ، الإمساك مع النية لحديث : يدع طعامه وشرابه من أجلي فأضاف الترك إليه ، وهو لا يضاف إلى المجنون ، والمغمى عليه .
لكن لو نوى ليلاً ثم جن ، أو أغمي عليه جميع النهار ، فأفاق منه قليلاً صح صومه لوجود الإمساك فيه . قال في الشرح : ولا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمى عليه - أي جميع النهار - لأنه مكلف ، بخلاف المجنون . ومن نام جميع النهار صح صومه ، لأن النوم عادة ، ولا يزول به الإحساس بالكلية .
السادس : النية من الليل لكل يوم واجب لحديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له رواه أبو داود .
فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى لأن النية محلها القلب .
وكذا الأكل ، والشرب بنية الصوم قال الشيخ تقي الدين : هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم ، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد ، وعشاء ليالي رمضان .
ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم لأن الله تعالى أباح الأكل إلى آخر الليل ، فلو بطلت به فات محلها .
أو قال إن شاء الله غير متردد كما لا يفسد الإيمان بقوله : أنا مؤمن إن شاء الله .
وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان : إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فمفطر فبان من رمضان أجزاءه ، لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله : وهو بقاء الشهر .
ويضر إن قاله في أوله لعدم جزمه بالنية .
وفرضه الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لقوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة : 187]
وقال صلى الله عليه وسلم : لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الافق حديث حسن . وعن عمر مرفوعاً : إذا أقبل الليل من ها هنا ، وأدبر النًهار من ها هنا ، وغربت الشمس ، أفطر الصائم متفق عليه .
وسننه ستة : تعجيل الفطر ، وتأخير السحور لحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور ، وعجلوا الفطر رواه أحمد .
والزيادة في أعمال الخير من القراءة والذكر والصدقة وغيرها .
وقوله جهراً إذا شتم : إني صائم لحديث أبي هريرة مرفوعاً إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب ، فإن شاتمه أحد ، أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم متفق عليه . وقال المجد : إن كان في غير رمضان أسره مخافة الرياء . واختار الشيخ تقي الدين الجهر مطلقاً ، لأن القول المطلق باللسان .
وقوله عند فطره : اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، سبحانك وبحمدك . اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم لحديث ابن العباس ، وأنس كان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أفطر قال : اللهم لك صمنا ، وعلى رزقك أفطرنا ، اللهم تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم وعن ابن عمر مرفوعاً : كان إذا أفطر قال : ذهب الظمأ وابتلت العروق ، ووجب الأجر إن شاء الله رواهن الدارقطني وفي الخبر : إن للصائم عند فطره دعوةً لا ترد .
وفطره على رطب ، فإن عدم فتمر ، فإن عدم فماء لحديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم يكن فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حسن غريب .
فصل
ويحرم على من لا عذر له الفطر برمضان لأنه ترك فريضة من غير عذر ، وعليه إمساك بقية يومه الذي أفطر فيه ، لأنه أمر به جميع النهار ، فمخالفته في بعضه لا يبيح المخالفة في الباقي ، وعليه القضاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ومن استقاء فليقض .
ويجب الفطر على الحائض والنفساء للحديث الصحيح : أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ .
وعلى من يحتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة كغرق ونحوه ، لأنه يمكنه تدارك الصوم بالقضاء ، بخلاف الغريق ونحوه .
ويسن لمسافر يباح له القصر لحديث ليس من البر الصيام في السفر متفق عليه . ورواه النسائي ، وزاد : عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها . وإن صام أجزأه نص عليه ، لحديث : هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم والنسائي ، وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟ قال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر متفق عليه .
ولمريض يخاف الضرر لقوله تعالى : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر الآية [البقرة : 184] .
ويباح لحاضر سافر في أثناء النهار لحديث أبي بصرة الغفاري أنه ركب سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ، ثم قرب غداءه ، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ، ثم قال : اقترب ، قيل : ألست ترى البيوت؟ قال : أترغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأكل رواه أبو داود . وحديث أنس حسنه الترمذي . إذا فارق بيوت قريته العامرة لما تقدم ، ولأنه قبله لا يسمى مسافراً . والأفضل عدم الفطر تغليباً لحكم الحضر ، وخروجاً من الخلاف .
ولحامل ، ومرضع خافتا على أنفسهما فيفطران ويقضيان لا غير . قال في الشرح : لا نعلم فيه خلافاً .
أو على الولد . لكن لو أفطرتا خوفاً على الولد فقط ، لزم وليه إطعام مسكين لكل يوم لقوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ البقرة : 184] . قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ، ويطعما مكان كل يوم مسكيناً والحبلى والمرضع ، إذا خافتا على أولادهما أفطرتا ، وأطعمتا رواه أبو داود . ويجب عليهما القضاء ، لأنهما يطيقانه . قال الإمام أحمد : أذهب إلى حديث أبي هريرة ، ولا أقول بقول ابن عمر ، وابن عباس في منع القضاء ذكره في الشرح .
وإن أسلم الكافر ، أو طهرت الحائض ، أو برئ المريض ، أو قدم المسافر ، أو بلغ الصغير ، أو عقل المجنون في أثناء النهار ، وهم مفطرون ، لزمهم الإمساك والقضاء لذلك اليوم ، لأنهم لم يصوموه ، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت ، ولزوال المبيح للفطر .
وليس لمن جاز له الفطر برمضان أن يصوم غيره فيه أي في رمضان لأنه لا يسع غير ما فرض فيه ، ولا يصلح لسواه .